كلام كثير قيل في سبب الغيبة الكبرى، وهو في عمومه لا يصمد للنقاش، وأود هنا عرض السبب الحقيقي لهذه الغيبة كما كشف عنه وصي ورسول الإمام المهدي (ع) السيد أحمد الحسن (ع) في كتابه ( العجل ج2 ).
فبعد أن ناقش السيد أحمد الحسن (ع) الفرضيات التي قال بها البعض عن سبب الغيبة، خلص إلى أن السبب الحقيقي يتمثل بـ (( إعراض الأمة عن الإمام (ع) وعدم الاستفادة منه استفادة حقيقية ، وعدم التفاعل معه كقائد للأمة . فتكون الغيبة التامة عقوبة للأمة ، وربما يكون من أهدافها إصلاح الأمة بعد تعرضها لنكبات ومآسي ، بسبب غياب القائد المعصوم . فتكون الغيبة الكبرى شبيهة بـ ( تيه بني إسرائيل في صحراء سيناء) أي أنها عقوبة إصلاحية ، الهدف منها خروج جيل من هذه الأمة مؤهل لحمل الرسالة الإلهية إلى أهل الأرض ، جيل لا يرضى إلا بالمعصوم قائداً ، ولا يرضى إلا بالقرآن دستوراً وشعاراً ، ومنهاجاً للحياة .
قال أمير المؤمنين (ع) في وصف إعراض هذه الأمة عن الإمام والقرآن:-
(( وانه سيأتي عليكم من بعدي زمان ليس فيه شيء أخفى من الحق ولا اظهر من الباطل ، ولا أكثر من الكذب على الله ورسوله !! وليس عند أهل ذلك الزمان سلعة أبور من الكتاب إذا تلي حق تلاوته ، ولا انفق منه إذا حرف عن مواضعه ، ولا في البلاد شيءٌ أنكر من المعروف ولا اعرف من المنكر ، فقد نبذ الكتاب حملته ، وتناساه حفظته ، فالكتاب يومئذٍ وأهله منفيان طريدان وصاحبان مصطحبان في طريق واحد لا يؤويهما مأوىً !! . فالكتاب وأهله في ذلك الزمان في الناس وليسا فيهم ومعهم وليسا معهم ، لان الضلالة لا توافق الهدى ، وان اجتمعا فاجتمع القوم على الفرقة وافترقوا عن الجماعة كأنهم أئمة الكتاب وليس الكتاب إمامهم ! فلم يبق عندهم منه إلا اسمه ، ولا يعرفون إلا خطه وزبره !! ومن قبل ما مثلوا بالصالحين كل مثلة وسموا صدقهم على الله فرية وجعلوا في الحسنة عقوبة السيئة )) .
والدال على إن (سبب الغيبة التامة) هو: أعراض الأمة عدة أمور منها :-
أ- التوقيعات الصادرة عنه (ع) عن طريق سفرائه قليلة جداً ، مما يدل على إن الأسئلة الموجهة إليه قليلة أيضاً ، ولعل قائل يقول إن التوقيعات كثيرة ، ولكن لم يصل لنا منها إلا هذا العدد الضئيل .
والحق إن هذا الاعتراض لا ينطلي على من تدبر قليلا ، فلو كانت التوقيعات كثيرة لوصل لنا منها الكثير ، وان ضاع منها شيء ، فحتما إن أحاديث الرسول (ص) ، والإمام الصادق ، والإمام الرضا (ع) لم تصل لنا جميعها . ولكن وصل لنا منها الكثير ، وأحاديث الإمام (ع) ليست ببدع من أحاديث الأئمة (ع) ، والظروف التي أحاطت بها ليست بأعظم من الظروف التي أحاطت بخطب الإمام أمير المؤمنين (ع) ، حتى وصل لنا منها كتاب (نهج البلاغة) . كما أن علماء الشيعة في زمن الغيبة الصغرى كانوا يهتمون في كتابة أحاديث الأئمة (ع) وعرض كتبهم على الإمام (ع) عن طريق السفراء ومن هذه الكتب (الكافي) للكليني ( رحمه الله ) فلماذا لم يهتم أحد منهم بكتابة التوقيعات الصادرة منه (ع) ؟! . والحقيقة أنهم اهتموا بكتابتها ، ولكنها قليلة . ويدل على إعراض الناس عن العلم والإمام ما قدم الكليني في كتابه الكافي . هذا والكليني عاش في زمن الغيبة الصغرى ، ومات في نهاية أيامها على الأصح فقد مات في شعبان سنة 329 هـ ق ، أي في نفس الشهر والسنة التي مات بها علي بن محمد السمري ، آخر السفراء الأربعة .
قال الكليني (رحمه الله) : ( أما بعد فقد فهمت ما شكوت اصطلاح أهل دهرنا على الجهالة وتوازرهم وسعيهم في عمارة طرقها ، ومباينتهم العلم وأصوله ، حتى كاد العلم معهم إن يأزر كله ، وينقطع مواده ، لِما قد رضوا إن يستندوا إلى الجهل ، ويضيعوا العلم وأهله ) .
وقال : ( فمن أراد الله توفيقه وان يكون إيمانه ثابتاً مستقراً سبب له الأسباب التي تؤديه إلى أن يأخذ دينه من كتاب الله وسنه نبيه (ص) بعلم يقين وبصيرة فذاك اثبت في دينه من الجبال الرواسي ومن أراد الله خذلانه وان يكون دينه معارا مستودعا (نعوذ بالله منه) سبب له الأسباب للاستحسان والتقليد والتأويل من غير علم وبصيرة . فذاك في مشيئة الله إن شاء الله تبارك وتعالى أتم أيمانه وان شاء سلبه إياه ولا يؤمن عليه إن يصبح مؤمنا ويمسي كافرا ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا لأنه كلما رأى كبيراً من الكبراء أو مالاً معه وكلما رأى شيئاً استحسن ظاهره قبله . وقد قال العالم (ع): ( إن الله عز وجل خلق النبيين على النبوة فلا يكونون إلا أنبياء وخلق الأوصياء على الوصية فلا يكونون ألا أوصياء وأعار قوماً الأيمان فان شاء أتمه لهم وان شاء سلبهم إياه قال : وفيهم جرى قوله {فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ } ) فاعلم يا أخي أرشدك الله انه لا يسع أحد تمييز شيء مما اختلف الرواية فيه عن العلماء (ع) برأيه إلا على ما أطلقه العالم بقوله اعرضوها على كتاب الله فما وافق كتاب الله عز وجل فخذوه وما خالف كتاب الله فردوه وقوله (ع) (( دعوا ما وافق القوم فان الرشد في خلافهم )) وقوله (ع) (خذوا بالمجمع عليه فان المجمع عليه لا ريب فيه )) ونحن لا نعرف من جميع ذلك إلا قلة ولا نجد شيئاً أحوط ولا أوسع من رد علم ذلك كله إلى العالم (ع) أي الإمام صاحب الأمر (ع) وقبول ما أوسع من الأمر فيه بقوله (( بأيهما أخذتم من باب التسليم وسعكم)) ).
ب - ورد عنهم (ع) انه مظلوم وانه اخملهم ذكراً : قال الباقر (ع) (الأمر في أصغرنا سناً وأخملنا ذكراً) . فخمول ذكره بين الشيعة دال على أعراضهم عنه (ع).
ج - خرج منه (ع) توقيع إلى سفيره العمري جاء فيه (( … وأما علة ما وقع من الغيبة فان الله عز وجل قال { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ }(المائدة : 101) )) . وربما يفهم من هذا الحديث أنكم سبب من أسباب الغيبة، والحر تكفيه الإشارة. وبعد جوابه على مسائل الحميري التي سألها قال (ع) ( بسم الله الرحمن الرحيم لا لأمره تعقلون ولا من أوليائه تقبلون {حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين )) .
ولا يخفى ما في كلامه (ع) من ألم ، سببه إعراض هذه الأمة عن الحق وعنه (ع) ، ونحن أيها الأحبة لو كنا موقنين أنه حجة الله علينا لعملنا ليلا ونهاراً لتعجيل فرجه ، ولقدمناه على النفس والمال والولد .
د - ركون الأمة للطاغوت وإعانته بأي شكل كان:- ولو بالأعمال المدنية التي يعتقد الناس إباحتها ، وهذا بيّنٌ لمن تصفح التاريخ ، وخصوصا في زمن الغيبة الكبرى . فقد أعان الطاغوت كثير من العلماء والجهلاء على السواء ، مع إن الإمام الكاظم (ع) اعترض على صفوان (رض) لأنه أَجّر جماله للطاغوت العباسي هارون ليذهب بها إلى الحج .
قال تعالى : { وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ} .
قال الشيخ محمد رضا المظفر رحمه الله : (( هذا هو أدب القرآن الكريم وهو أدب آل البيت (ع) وقد ورد عنهم ما يبلغ الغاية من التنفير عن الركون إلى الظالمين الاتصال بهم ومشاركتهم في أي عمل كان ومعاونتهم ولو بشق تمرة ولا شك أن أعظم ما مني به الإسلام والمسلمون هو التساهل مع أهل الجور والتغاضي عن مساوئهم والتعامل معهم فضلا عن ممالئتهم ومناصرتهم وإعانتهم على ظلمهم وما جر الويلات على الجامعة الإسلامية إلا ذلك الانحراف عن جدد الصواب والحق حتى ضعف الدين بمرور الأيام فتلاشت قوته ووصل إلى ما عليه اليوم فعاد غريباً وأصبح المسلمون أو ما يسمون أنفسهم بالمسلمين وما لهم من دون الله أولياء ثم لا ينصرون حتى على اضعف أعدائهم وأرذل المجترئين عليهم كاليهود الأذلاء فضلا عن الصليبيين الأقوياء .
لقد جاهد الأئمة (ع) في إبعاد من يتصل بهم عن التعاون مع الظالمين وشددوا على أوليائهم في مسايرة أهل الظلم والجور وممالئتهم ولا يحصى ما ورد عنهم في هذا الباب ومن ذلك ما كتبه الإمام زين العابدين إلى محمد بن مسلم الزهري بعد إن حذره عن إعانة الظلمة على ظلمهم (أو ليس بدعائهم إياك حين دعوك جعلوك قطباً أداروا بك رحى مظالمهم وجسراً يعبرون عليك إلى بلاياهم وسلماً إلى ضلالتهم داعياً إلى غيهم سالكاً سبيلهم يدخلون بك الشك على العلماء ويقتادون بك قلوب الجهال إليهم فلم يبلغ أخص وزرائهم ولا أقوى أعوانهم إلا دونما بلغت من إصلاح فسادهم واختلاف الخاصة والعامة إليهم فما اقل ما أعطوك في قدر ما اخذوا منك وما أيسر ما عمروا لك في جنب ما خربوا عليك فانظر لنفسك فانه لا ينظر إليها غيرك وحاسبها حساب رجل مسؤول ) .
وقال (( وابلغ من ذلك في تصوير حرمة معاونة الظالمين حديث صفوان الجمال مع الإمام موسى الكاظم (ع) وقد كان من شيعته ورواة حديثه الموثوقين قال حسب رواية الكشي في رجاله بترجمة صفوان فقال (ع) :(( يا صفوان كل شيء منك حسن جميل خلا شيئاً واحدا ، قلت جعلت فداك أي شيء قال (ع) إكراك جمالك من هذا الرجل –يعني هارون – قلت والله ما أكريته أشرا ولا بطراً ولا للصيد ولا للهو ولكن أكريته لهذا الطريق – يعني مكة – ولا أتولاه بنفسي ولكن ابعث معه غلماني ، قال: يا صفوان أيقع كراك عليهم ؟ قلت: نعم ، جعلت فداك . قال: (ع) أتحب بقاءهم حتى يخرج كراك . قلت : نعم ، قال (ع) فمن أحب بقائهم فهو منهم ومن كان منهم فهو كان ورد النار ، قال: صفوان فذهبت وبعت جمالي عن أخرها )).
فإذا كان نفس حب حياة الظالمين وبقائهم بهذه المنـزلة! فكيف حال من يدخل في زمرتهم أو يعمل بأعمالهم أو يواكب قافلتهم أو يأتمر بأمرهم . إذا كان معاونة الظالمين لو بشق تمرة بل حب بقاءهم من اشد ما حذر عنه الأئمة (ع) فما حال الاشتراك معهم في الحكم والدخول في وظائفهم وولايتهم بل ما حال من يكون من جملة المؤسسين لدولتهم ، أو من كان من أركان سلطانهم والمنغمسين في تشييد حكمهم ( وذلك إن ولاية الجائر دروس الحق كله وإحياء الباطل كله وإظهار الظلم والجور والفساد كما جاء في حديث تحف العقول ) .
إن العمل في الدوائر المدنية فضلا عن الحربية في دولة الطاغوت إعانة للطاغوت على البقاء في الحكم ، وبالتالي فهي إعانة لأعداء الإمام المهدي (ع) ، ولا تستهينوا بهذا الأمر ، ففي الدول التي تتمتع شعوبها بشيء من الحرية ، إذا أراد جماعة معينة الضغط على حكومة ذلك البلد لتحقيق مطالب معينة أعلنوا إضراباً عن العمل .
فالحكومات الطاغوتية متقومة بكم أيها العمال والمهندسون والموظفون انتم العمود الرئيسي الذي يرتكز عليه الطاغوت . ولعل بعضكم يقول ماذا نفعل ؟ والحال اليوم أنهم متسلطون على رقابنا .
أقول إنهم متسلطون على رقابنا منذ وفاة رسول الله (ص) لا لعيب في الأوصياء – الإمام علي وولده (ع) – ولكن العيب فينا نحن ، إننا دائماً متخاذلون عن نصرة الحق ، وربما عند ظهور الإمام المهدي (ع) سيقول كثيرون هذا ليس المهدي (ع) ليعطوا أنفسهم عذراً لتركهم نصرة الإمام المهدي (ع) ، كما فعل أهل مكة واليهود مع رسول الله (ص) ، مع أنهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ، في خلقه العظيم وأمانته وصدقه ، وتنـزهه عن الكذب في أمور الدنيا ، فكيف يكذب على الله سبحانه ،كما أنهم عرفوه بالآيات والمعجزات التي أيده الله بها ، ولكنهم وجدوه يمثل جبهة الحق التي تصطدم بمصالحهم ، ووجدوه يدعوهم إلى الجهاد في سبيل الله مما يعرض حياتهم للخطر ، فخذلوه ونصره الله سبحانه . وسيخذل كثيرون الإمام المهدي (ع) وسينصره الله سبحانه فعن الإمام الصادق (ع):
(( لينصرن الله هذا الأمر بمن لا خلاق له ولو قد جاء أمرنا لقد خرج منه من هو اليوم مقيم على عبادة الأوثان )) .
وعبادة الأوثان أي طاعة الطواغيت ومسايرتهم بل وأتباع الهوى ، وعن الإمام الصادق (ع) ( إذا خرج القائم خرج من هذا الأمر من كان يُرى انه من أهله ودخل فيه شبه عبدة الشمس والقمر ) .
أي يخرج من نصرة الإمام (ع) بعض الذين يدّعون التشيع ، ويرون أنهم من أنصار الإمام المهدي (ع) ، ويدخل في صفوف أنصاره قوم من غير الشيعة ، بل لعلهم من غير المسلمين بعد أن يعرفوا الحق ويشايعوا آل محمد (ع) .
قال تعالى { لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } (التوبة:42) .
وفي واقعة كربلاء وقف عمر بن سعد (لعنه الله) بين يدي الإمام الحسين (ع) يعتذر عن بقائه مع الطاغوت بأنه يخاف القتل ويخاف أن تهدم داره ، ويخاف أن تسبى نساؤه ويخاف …ويخاف … ويخاف .
فلنحذر جميعاً أن نكون اليوم وغداً كعمر بن سعد (لعنه الله). نخذل الحق ونعتذر بأعذار قبيحة وحجج واهية. وأكتفي بهذا القدر على أن سبب الغيبة هو : - تقصير الأمة وإلا فالأدلة أكثر مما ذكرت. فإذا عرفنا أن أهم أسباب الغيبة التامة هو : إعراض الأمة عن الإمام (ع) أصبح واجبنا جميعاً العمل لظهوره ، ورفع أسباب غيبته التامة ، بإعلاء ذكره وإظهار حقه وتهيئة الأمة للاستعداد لنصرته عند ظهوره وقيامه ، ونشر الدين ، وطمس معالم الضلال والشرك ، والقضاء على الطواغيت وأعوانهم ، الذين يمثلون أهم أعداء الأمام المهدي (ع) )).
0 تعليق على موضوع "سبب الغيبة الكبرى"
الإبتساماتإخفاء